[نشر هذا المقال للمرة الأولى على جدلية باللغة الإنجليزية. قام بترجمته إلى العربية علي أديب النعيمي.]
بينما كان الاهتمام الإعلامي العربي والدولي منصباً على فوز الإخوان المسلمين بالانتخابات الرئاسية في مصر، استمرت مظاهرات غير مسبوقة منذ عقدين من الزمن في شوارع الخرطوم ومدن سودانية كبيرة أخرى للأسبوع الثاني. ألهمت المظاهرات المعادية للحكومة، والتي قادها في البدء طلبة جامعة الخرطوم، مظاهرات مماثلة كبيرة في العبيد، والقضارف، وبورسودان، وواد مدني، وعطبرة. بدأت المظاهرات في السادس عشر من حزيران بطالبة شجاعة في مبنى جامعة الخرطوم في وسط المدينة، قامت بالخروج إلى الشارع والهتاف " لا لا لزيادة الأسعار،" و" حرية حرية." احتج الطلبة في البداية على ارتفاع تكلفة النقل العام بنسبة خمس وثلاثين في المئة، وطالبوا بـ " تحرير" المبنى الجامعي من التواجد الواسع للمخابرات وقوى الأمن. منذ ذلك الوقت، أصبحت الخرطوم، إضافة لمدن أخرى، مسرحاً لاحتجاجات يومية تؤججها أجندة سياسية. تردد صدى الانتفاضات العربية في تونس، ومصر، وسوريا على حناجر المتظاهرين وهم يهتفون بشعار "الشعب يريد اسقاط النظام،"و" لن يحكمنا دكتاتور،" و" ثورة ثورة حتى النصر."
سارع الرئيس عمر البشير، مدفوعاً بالوعي والقلق في الوقت ذاته من شعارات تعيد إلى الأذهان انتفاضتين عربيتين تمكنتا من إزاحة نظامين عسكريين، إلى القول إن هذا " ليس ربيعاً عربياً."
رغم هذا، فقد توسعت المظاهرات في الرقعة الجغرافية وفي البعد الاجتماعي، وتجاوزت الطبقة المتوسطة في جامعة الخرطوم لتشمل أعداداً أكبر من طلبة من طبقات اجتماعية أدنى ومن جامعات أخرى، إضافة إلى مناصرين وناشطين ينتمون إلى أحزاب المعارضة الرئيسة، ومشتغلين بالخدمة المدنية، وعاطلين عن العمل، وعاملين في القطاع غير الرسمي. إضافة إلى هذا، ورغم استعمال الغاز المسيل للدموع، والهراوات، وعمليات الاعتقال واسعة النطاق من جانب قوى الأمن الحكومية وجهاز المخابرات، فقد امتدت المظاهرات لتشمل ساكني مناطق مزدحمة، والطبقة العاملة في مناطق مثل بري، والعيلفون، والجريف، والصحافة، والعباسية، ومايو في جنوب العاصمة. وفيما استمرت المظاهرات بقوة أكبر في يومها العاشر، فقد هاجمت قوى الأمن السكن الداخلي لجامعة الخرطوم وأشعلت فيه النيران بدافع من شعورها بالإحباط بسبب عجزها عن إخماد الاحتجاجات. وقام الطلبة بالرد على تصريحات البشير العلنية يوم الرابع والعشرين من حزيران، والتي وصف فيها المتظاهرين بأنهم " مخربون،" و" عملاء للخارج،" و" شذاذ آفاق،" بهتافهم " نحن لسنا شذاذ آفاق،" و" ستكون نهايتك في الصرف الصحي،" في إشارة لا تخفى إلى كيفية اعتقال الزعيم الليبي السابق، معمر القذافي، قبل أن يتم قتله.
كان لقرار الحكومة القاضي بإلغاء الدعم عن الوقود وفرض حزمة تقشف واسعة، الأثر الأكبر في تصاعد معدل التضخم ليصل إلى أكثر من ثلاثين بالمئة مما سبب اندلاع موجة الاحتجاجات. تأتي هذه الاحتجاجات تالية لموجات أصغر، ولكنها تتواصل بعناد، بدأت منذ العام الماضي في رداً على سياسات اقتصادية قائمة حتمها انفصال جنوب السودان الذي حدث في صيف 2011. فقد تسبب انفصال جنوب السودان في فقدان ثلثي عائدات النفط ، مما جعل الخرطوم تعاني من عجز متصاعد في الميزانية، وضعف في العملة، وتكلفة متزايدة للغذاء والاستيرادات الأخرى. ومما زاد الأمر سوءاً للخرطوم هو قيام جنوب السودان، الذي لا منفذ له، بوقف إنتاج النفط في يناير بعد أن اتهم الخرطوم بتقاضي أجورعالية مقابل نقل النفط عبر خط الأنابيب التابع للخرطوم. وبعد سنوات من معدلات تصدير نفط غير مسبوقة سببت نمواً إقتصادياً، وعادت على البلاد في بعض السنوات بمعدل نمو من رقمين، فإن القاعدة الاقتصادية التي ساعدت على استمرارية المرونة وديمومة شبكات الرعاية الحكومية تبخرت بين ليلة وضحاها. وفي محاولة للتعامل مع هذه التطورات، فقد قامت حكومة البشير، وبعد إعلان استقلال جنوب السودان مباشرة، بوضع قيود على تحويل العملة الصعبة، ومنعت استيراد بعض المواد، وخفضت الدعم الحكومي على السلع الأساسية مثل السكر والوقود. ومع عجز في الميزانية يبلغ 2.4 مليار دولار، فقد قامت حكومة البشير في الثامن عشر من حزيران، 2012 بفرض حزمة إجراءات تقشفية يائسة أشد صرامة، حيث رفعت الدعم الحكومي عن الوقود، وأعلنت عن فرض ضرائب أعلى على رأس المال، والسلع الاستهلاكية، والاتصالات، ومجموعة كبيرة من المواد المستوردة.
ورغم أن التظاهرات الحالية تعود في جزء منها إلى تأثير انتفاضات الربيع العربي، فإن المسببات التي تغذيها هي أوجاع سودانية محضة. فالطلبة السودانيون والناشطون العاطلون عن العمل يواجهون قوى الأمن المرعبة في شوارع الخرطوم. وقد رفض عدد من أعضاء النقابات المهنية، وقادة قوى التوافق الوطني (وهي مظلة لأحزاب المعارضة) مزاعم الحكومة أن الأزمة الاقتصادية الخانقة هي خارج سيطرتها، وأن الأزمة ناتجة عن التصرفات " السيئة" للتجار الذين يعملون في القطاع الخاص ويقومون بتهريب الوقود والعملة الصعبة على حساب الشعب السوداني، وجادلوا في المقابل أن هذه الاقتصاديات الصغيرة لا يمكن الدفاع عنها وأنها معروفة على نطاق واسع بأنها تغطي ممارسات الفساد لأعضاء المؤتمر الوطني الحاكم. وقد قامت قوى التوافق الوطني بحملة منظمة لنشر أدلة دامغة تظهر أن الجزء الأكبر من الميزانية يصرف على تمويل الحملة العسكرية المتصاعدة في دارفور، وكذلك على المصادمات الحدودية مع جنوب السودان والتي بدأت بشكل جاد في إبريل الماضي. إضافة لهذا، وكما أوردت الصحافة المحلية، فإنه وفي نفس الوقت الذي قامت فيه السلطات بفرض إجراءات التقشف، فقد أعلن المؤتمر الوطني الحاكم عن استثمارات أكبر في الأجهزة الحكومية بسبب القلق من ضعف السيطرة على شبكات التحكم وأجهزة الأمن في خضم الاحتجاجات واسعة النطاق والتي تسعى لإسقاط النظام. ومن المفارقة أن يلوم نائب الرئيس السوداني القوي، علي عثمان طه، الشعب السوداني على الأزمة الاقتصادية لأنهم، وحسب تعبيره، " يعيشون نمط حياة أعلى من قدراتهم."
في بلد تعتمد فيه أغلب العوائل في معيشتها على الأموال التي يحولها لهم أقرباؤهم العاملون في الخارج، فقد زاد علي عثمان طه من غضب المحتجين عندما تحدث عن طباع السودانيين في دعم أقربائهم ( بمعنى أن شخصاً واحداً يعمل ويعتمد عليه الآخرون) وادعى أن هذا هو السبب الحقيقي في ضعف الناتج المحلي ومستوى الدخل. ومن جانبه فقد تعهد حزب التوافق الوطني، والذي يضم حزب المؤتمر الشعبي بزعامة الاسلامي حسن الترابي، وحزب الأمة الوطني بزعامة رئيس الوزراء السابق، الصادق المهدي، بالاستمرار في تعبئة الشارع وراء المظاهرات لمعارضة إجراءات التقشف الحكومية.
السودان في مفهوم الانتفاضات العربية: توضيح سوء الفهم في النقاش الدائر في السودان حول " الربيع العربي"
لقد أشعل تطبيق مفهوم الاقتصاد الكلي، والذي تم استلهامه وتبريره وفق مبادئ الليبرالية الحديثة التي لعبت دوراً أكبر في هذا من انفصال الجنوب، الاحتجاجات القائمة حالياً. ومع ذلك، فإنه من الواضح أن حجم الاحتجاجات والتنظيم الاستراتيجي المتبع هنا قد تم استلهامه من الاحتجاجات والتغييرات التي حدثت في أنحاء أخرى في العالم العربي. ورغم ذلك، وفي أعقاب الانتفاضات العربية، فإن هناك ما يشبه الاجماع بين الباحثين السودانيين على أن الحكومة السودانية لن تنحني أمام الاحتجاجات الشعبية في المدى القريب. ومن المثير للإهتمام أن المنطقة العربية التي كان يُنظر إليها في السابق على أنها محصنة ضد الدمقرطة ، قد أنتجت في ظل الاحتجاجات العربية حالة " الخصوصية العربية" والتي تم استبدالها بحالة "الخصوصية السودانية" في كثير من التحليلات حول السودان. يصر هؤلاء المحللون، في تبعية واضحة للباحثين العرب التابعين للسلطة وبدون توفر أدلة كافية، على أن المؤسسة العسكرية مدينة بالفضل للحكومة كما هو الحال منذ تسلم البشير السلطة في انقلابه العسكري في 1989، بمعنى أن الرتب العالية في الجيش وقوى الأمن تدين بالولاء لحكم البشير، وأن المعارضة السياسية ضعيفة وتفتقر للمصداقية، وأن المجتمع المدني متفرق وأضعف من مثيليه في تونس ومصر. هذه المعطيات هي نفسها التي دفعت الباحثين للتنبوء ببقاء أنظمة الحكم الاستبدادية في العالم العربي. وكما أوضح محلل سوداني، فإنه " يوجد بالتأكيد تذمر من النظام، ولكنه من غير الواضح ما إذا كان هناك ما يكفي من العوامل اللازمة لإكمال المعادلة في الخرطوم، لأن الاحتجاجات القائمة حتى الآن لم تتجذر في قطاع واسع من الشعب."
وقد قدمت مجموعة الأزمات الدولية ذات النفوذ القوي (ICG) تحليلاً مماثلاً حين قالت إن "سنوات الإخضاع على يد المؤتمر الوطني الحاكم قد تسببت في حالة من اللامبالاة السياسية وأضعفت المعارضة." ويمثل الامتداد الحاصل في الاحتجاجات الشعبية إلى المدن السودانية الكبيرة تناقضاً واضحاً مع شبه الإجماع بين المحللين على أن اليد القوية للمخابرات الوطنية وقوى الأمن وما تسببه من خوف في أوساط الشعب ستحبط أي إنتفاضة شعبية حقيقية.
في الحقيقة، فقد ظهرت إنقسامات عميقة ضمن قوى الأمن وحزب المؤتمر الحاكم في السنوات الأخيرة حول أخطاء الخرطوم في تناول موضوع انفصال جنوب السودان، والمفاوضات التي لا تزال قائمة مع الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان حول المناطق الحدودية الغنية بالنفط، وسير العمليات العسكرية الحالية في جنوب كردفان. وبالتأكيد، فإن حالة الجبهة الموحدة التي كانت موجودة في السنوات الأولى من حكم البشير قد تلاشت الآن، وظهرت العديد من الانشقاقات ضمن القيادات الأمنية مما دفع البشير لإقصاء العديد من المسؤولين الرفيعين حماية لنفسه. هذه الانشقاقات ظهرت جلية حين أقال البشير صلاح جوش، المدير العام منذ زمن طويل للمخابرات والأمن السوداني، من منصبه في إبريل 2011. إختلف جوش مع المستشار المتنفذ لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، حزب الرئيس، نافع علي نافع، بعد أن بدأ الأول في فتح حوار مع أحزاب المعارضة، الأمر الذي غذى مخاوف البشير ونافع أنه يخطط لانقلاب ضد النظام.
في الرابع والعشرين من حزيران، وفي رد على الموجة المستمرة من الاحتجاجات في عموم البلاد، أصدر البشير مرسوماً أعفى بموجبه تسعة من مستشاريه رفيعي المستوى، وبضمنهم ستة من حزب المؤتمر الوطني الحاكم، من مناصبهم. وفي خطوة جاءت كجزء من عملية تغيير واسعة تشمل عموم البلاد في محاولة لتجديد النظام المتآكل، فقد قدمت حكومات الولايات كافة استقالاتها باستثناء حكومة ولاية جنوب دارفور التي رفضت الاستقالة.
في حالة السودان، فإن هذا التحليل، وكما حدث مع مصر وتونس في السابق، لا يعطي الصورة الكاملة لمستقبل "ربيع السودان الديمقراطي." إن الإجابة عن السؤال حول ما إذا كان السودان سيبقى محصناً ضد أية انتفاضة مؤثرة، إن لم نقل انفتاحاً ديمقراطياً، يتطلب تحليلاً يتناول بشكل جدي الأخطاء التي ارتكبها الباحثون الذين ركزوا بشكل خاطئ على ديمومة أنظمة الاستبداد العربية. هل سيبقى السودان محصناً ضد الديمقراطية؟ إن الاجابة على هذا السؤال معلقة على فهم العوامل التي طالما أثرت، ولو بشكل خاطئ، على بقاء أنظمة الحكم الاستبدادية في العالم العربي. هذه العوامل تشمل حقيقة أن الدول العربية لديها مجتمعات مدنية ضعيفة، وفيها طبقة متوسطة مدينة ببقائها لرعاية الحكومة، وأحزاب معارضة إما ضعيفة ( كما في مصر والسودان مثلاً) أو غير موجودة أساساً ( كما هو الحال في تونس). ورغم ذلك، وكما أظهرت الأحداث في تونس ومصر، فإن لا شيء من هذه الظروف قد عرقل التقدم نحو النضال الصعب لتفكيك مؤسسات النظم الاستبدادية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية الموجودة منذ أمد بعيد، وقد أظهر هذا بكل تأكيد أن وجود معارضة ضعيفة التنظيم لا يقف حائلاً أمام تعبئة مؤثرة للجماهير.
ما الذي يفسر إذا اختلاف السودان عن جارتيها الشماليتين؟ وكيف يمكن لنا أن نقيم إمكانية حدوث انتفاضة شعبية تقود إلى مرحلة ديمقراطية في السودان؟ الإجابة بالنسبة للسودان مباشرة: إن الأمر كله يعتمد على قدرة البشير في السيطرة على قوى القمع. وكما أوضح المحللون الذين تناولوا أنظمة الاستبداد العربية، فإنه حين تحافظ أجهزة القمع الحكومية على تجانسها وفعاليتها فإنها تنجح في مواجهة التذمر الشعبي وانعدام الشرعية. وفي المقابل، فحين تضعف قدرة الدولة على القمع أو حين تفتقر إلى الإرادة في سحق الاحتجاجات الشعبية، فإننا يمكن أن نشهد سقوط الدولة المستبدة سواء في العالم العربي أو في أي مكان في العالم. وفي حالة السودان، فإنه من الواضح أنه وبعد ثلاثة وعشرين عاماً من الحكم، فإن قدرة نظام البشير على القمع قد ضعفت كما أخذت الهوة بينه وبين الشعب تكبر يوماً بعد آخر. لقد اختارت القوات المسلحة السودانية، والتي تعاني من هبوط في المعنويات بسبب حربها مع الميليشيات في دارفور وفي ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان الجنوبيتين، ألا تتدخل ضد المحتجين.، فالنظام يعتمد في الوقت الحالي على قوات الشرطة، و بشكل أكثر تحديداً على قوات الأمن والمخابرات الوطنية لقمع مظاهرات الشارع السوداني. وهناك بالفعل مظاهر تذمر بين قوى الأمن والشرطة فيما يخص أسلوب احتجاز المواطنين السودانيين، كما أن المحتجين يعرفون تماماً طبيعة الخلافات السياسية والاجتماعية بين الشرطة من ناحية وقوى الأمن والمخابرات من ناحية أخرى، وهم يحاولون أن يقنعوا عناصر من الشرطة لتتعاطف مع ما يتعرضون له من ظلم من قبل الدولة. في واحدة من أكبر المظاهرات وأكثرها أهمية والتي حدثت بعد صلاة الجمعة خارج جامع عبد الرحمن في أم درمان، هتف المتظاهرون: " يا بوليس يا بوليس، ماهيتك كم؟ و كيلو السكر بقى بكام؟" في محاولة واضحة لكسب تأييد الشرطة، والجيش، وأعضاء من الحكومة ودفعهم للانضمام للمظاهرات، كما حدث في انتفاضتين سابقتين واللتين تُعرفان بثورة أكتوبر عام 1964، وثورة إبريل عام 1985. وبالرغم من هذا، فإن المتظاهرين، وكما كان الحال مع نظرائهم في تونس ومصر، يعلمون أن تفكيك نظام استبدادي يحكم منذ زمن طويل يحتاج إلى مظاهرات مستمرة وتعبئة جماهيرية في الشارع تقود في النهاية، رغم بعض التردد، إلى كسب تأييد عناصر مهمة في المؤسسة العسكرية.
وبناء على ذلك، فإن السؤال الأهم في حالة السودان والمظاهرات التي يشهدها حالياً هو ليس ما إذا كانت هذه المظاهرات بحجم تلك التي شهدتها مصر وتونس، ولكن السؤال يكمن في فهم القوة النسبية التي يتمتع بها نظام البشير في القمع في مقابل قوى معارضة مدنية متنامية وجريئة. إن المثالين التونسي والمصري يوضحان لنا أن الإجابة على هذا السؤال تعتمد على الوضع المالي للدولة، ومستوى الدعم الدولي، ومدى نفوذ قطاع الأمن في المجتمع المدني. وكما هو الحال في دول عربية أخرى، فإن هذه العوامل، إن أخذت بشكل جماعي، ستحدد ما إذا كان مستوى التعبئة الجماهيرية والاحتجاجات الحالية يفوق قدرة جهاز القمع في نظام البشير أو لا. وفي هذا الشأن، فإنه من المتوقع أن يكون عمر نظام الخرطوم الاستبدادي أقل مما يتوقعه أغلب المحللين، وهذا يعود لعوامل عديدة.
العامل الأول هو أن مستوى التأييد الدولي لهذا النظام منخفض جداً. فقد عمدت الولايات المتحدة بعد بضعة أشهر من انفصال جنوب السودان على إعادة فرض العقوبات الاقتصادية على السودان، أضف إلى هذا إدانة المحكمة الدولية لنظام البشير والتي صدرت في تموز 2010 ولا زالت سارية المفعول، مما فاقم من عزلة نظام البشير و أدى إلى انقسامات جدية في صفوف الحزب الحاكم، وأنهى آمال بعض أعضاء المؤتمر الوطني الحاكم في الحصول على استثمارات أجنبية تحتاجها البلاد بشدة.
العامل الثاني هو أنه وبعد ما يقرب من عقد من الزمن شهد ارتفاعاً كبيراً في الناتج المحلي الاجمالي (إجمالي الناتج المحلي الحقيقي)، والذي وصل إلى ما يقرب من 7.7 بالمئة سنويا بفعل صادرات النفط، فإن معدل النمو الذي شهدته البلاد قد انخفض منذ العام 2010 وبشدة ليصل إلى 3 بالمئة حتى قبل انفصال جنوب السودان الغني. لقد شهدت صادرات السودان النفطية، والتي تعاني من النضوب أساساً، تقلصاً بلغ 20 بالمئة بعد أن تم إغلاق حقل هيجليج الرئيسي بسبب الأضرار التي لحقت به إثر المواجهات المسلحة مع قوات جنوب السودان في إبريل من هذا العام. وبناء على ذلك، فإن نظام البشير يعاني من نقص هائل في العملة الصعبة وهي وسيلته لتمويل القاعدة المؤيدة له. لقد دفعت هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة نظام البشير إلى فرض إجراءات التقشف التي قادت إلى احتجاجات على تكاليف المعيشة المرتفعة، والأهم من هذا من وجهة النظر السياسية هو أنها أضعفت قدرة نظام الخرطوم على قمع الانشقاقات حيث أن ما يزيد من سبعين بالمئة من عائدات النفط، قبل انفصال الجنوب، كانت تصرف على الجيش وقوى الدفاع الشعبية في البلاد.
العامل الثالث، وكما هو ملاحظ في المظاهرات في الخرطوم وفي أنحاء الشمال، فإن قطاعاً كبيراً من البلاد بدأ بالتعبئة بشكل يوازي ما يقوم به الجيران الشماليون. إضافة إلى هذا، فإن المظاهرات التي امتدت إلى الوسط والشمال رافقتها حملة على الانترنت تقودها مجموعة قرفنا (مللنا). وفي نهج يماثل النهجين التونسي والمصري، فقد حافظت هذه الحملة على الروابط بين السودانيين في عموم البلاد ومئات الآلاف من السودانيين في المهجر. كل هذه العوامل مجتمعة تساهم في إضعاف قدرة البشير على تعطيل الدعوة للديمقراطية إلى أجل غير محدود.
لعل السبب الرئيس والأكثر أهمية في القول بأن نظام البشير قابل للسقوط هو حقيقة أن قطاع الأمن الحالي يشهد إنقسامات متزايدة، وأن القيادات العليا تعاني من خلافات عميقة. لقد شهدت الفترة التي تلت انفصال الجنوب تركزاً للسلطة في يد البشير ومجموعة ضيقة من الموالين له. إضافة لهذا، فقد قام البشير بتقسيم أجهزة الأمن عن عمد تحسباً من حدوث انقلاب من داخل المؤسسة العسكرية، وبدأ بالاعتماد على الولاءات الشخصية والقبلية، ولم يعد لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، ذي النفوذ القوي سابقاً، أي نفوذ يذكر في أوساط الشعب حالياً، بل وحتى ضمن أوساط الاسلاميين المتشددين. بدا هذا الانقسام أشد وضوحاً بعد الخلاف العلني بين إثنين من أكتر المسؤولين نفوذاً في نظام البشير، وهما نافع علي نافع، وعلي عثمان طه. يمثل نافع (مستشار الرئيس ومدير أمن الدولة) مع الرئيس البشير نفسه التيار المتشدد في النظام، وقد قاوم الإثنان بقوة أي إصلاحات دستورية. يقف في الجانب الآخر علي عثمان طه ( النائب الثاني للرئيس) والذي دخل في مواجهة حادة مع التيار المتشدد باقتراحه دعوة بعض أحزاب المعارضة للاشتراك في كتابة دستور جديد. هذا الانشقاق الجدي في أوساط حزب المؤتمر الحاكم، إضافة إلى عزلة النظام الدولية، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تلت انفصال الجنوب، وفقدان عوائد النفط، ومستويات التذمر الشعبي المتصاعدة، والتعبئة الشعبية ( رغم ضعفها) تعد مؤشرات على أن السودان- البلد الذي شهد في السابق انتفاضتين شعبيتين نجحتا في تغيير سياسة البلاد بشكل جذري- قد يجد نفسه منجذباً لتأثيرات هامة من جيرانه العرب في نفس الوقت الذي يتابع فيه مساره ذا الخصوصية السودانية.